نبذه عن المؤالف

المحامي خالد بن عبدالكريم البابطين
محامٍ ومستشار قانوني | عضو أساسي في الهيئة السعودية للمحامين |مسجل عقاري معتمد
القانون مرآة لثقافة المجتمع ومبادئه التي ارتضاها لنفسه. إنه ابن البيئة التي نشأ فيها، ويكتسب شرعيته مما ارتضاها الشعب لنفسه. لكن تسارعت العولمة وتداخلت المجتمعات، فبرزت مشكلة قانونية بالغة التعقيد: لا يحاكم الشخص على فعل قد يكون مشروعًا في ثقافته الأصلية، لكنه مجرم في بلد الإقامة؟ هنا لا نتحدث عن محاكمة فعل فحسب وإنما عن محاكمة ثقافة.
القانون يعكس الهوية الثقافية
لكل نظام قانوني جذور تاريخية تشكل مضمونه. فما يُعد جريمة في بلد ما، قد يكون مألوفًا أو حتى مشروعًا في بلد آخر. في فرنسا، يُعد شرب الخمر في الأماكن العامة أمرًا مألوفًا، بينما هو مجرم في المملكة العربية السعودية.
في بعض الولايات الأمريكية، يُعتبر حمل السلاح الناري حقًا دستوريًا، بينما هو مجرم تمامًا في المملكة المتحدة.
هذا التنوع يؤدي إلى ما يسميه فقهاء القانون بـ "التصادم الثقافي القانوني"، حيث يصطدم الفرد بقانون يعكس ثقافة غير ثقافته.

قضية حميدان التركي.. نموذج حي لهذا التصادم
مقالات قضية المواطن السعودي حميدان التركي في الولايات المتحدة مثلت هذه المعضلة بوضوح.
فقد وُجهت له اتهامات خطيرة ترتبط بسلوكيات تُجرم بشدة في القانون الأمريكي، بينما بعض هذه الأفعال قد تُفهم في بيئة ثقافية مختلفة ضمن سياق اجتماعي أو عرفي خاص. بل قد تفسر انها من ضمن الخدمات الإنسانية الجليلة.
النقاش لم يكن حول البراءة أو الإدانة، بل حول مدى عدالة إخضاع شخص لمنظومة قانونية تجسد ثقافة مغايرة او حتى معادية لبيئته الثقافية التي نشأ عليها.
الدفاع بالاختلاف الثقافي
في الفقه القانوني المقارن، ظهر ما يُعرف بـ الدفاع بالاختلاف الثقافي ، وهو حجة قانونية تُستخدم لتفسير أو تبرير سلوك المتهم استنادا إلى خلفيته الثقافية.
نماذج من الأخذ به:
• القضاء الكندي: في قضية (1992) R. v. Luc، أخذت المحكمة بعين الاعتبار الخلفية الثقافية للمتهم الفيتنامي الذي تصرف وفقًا لعادات بلده، وخففت العقوبة.
• القضاء الأمريكي: في قضية (1985) People v. Kimura، اعتبرت المحكمة الظروف الثقافية للمتهمة اليابانية، التي ارتكبت جريمة قتل أطفالها وفق مفهوم "أويباشي" الثقافي، سببًا لتخفيف الحكم.
نماذج من رفضه:
• القضاء البريطاني: رفض في قضية (1998) R v. Abdul Choudhury، الاعتداد بالدفاع الثقافي لتبرير ضرب الزوجة، مؤكدًا أن القانون المحلي يحظر العنف الأسري دون استثناءات ثقافية.
• القضاء الأسترالي: في قضية (1983) R v. Dincer، رفضت المحكمة تبرير سلوك عنيف استنادًا إلى خلفية ثقافية، حماية للنظام العام.
القانون الدولي والنزاعات الثقافية
رغم أن القانون الدولي، إلا أنه يؤكد كذلك على حماية القيم العالمية مثل منع التعذيب، وحماية الحياة، وعدم التمييز، حتى لو كانت بعض الممارسات مقبولة ثقافيًا في دول معينة.

بين سيادة القانون وعدالة السياق
هنا تتصارع فكرتان:
1. سيادة القانون المحلي: كل من يوجد على أرض الدولة يخضع لقوانينها بلا استثناء.
2. عدالة السياق الثقافي: الإنصاف يقتضي النظر في نية الفاعل ومدى وعيه بتجريم الفعل في بيئة جديدة.
إن التوازن بين هذين المبدأين صعب، لكنه ممكن من خلال:
• تعزيز التوعية القانونية للمهاجرين والمقيمين.
• منح القضاة مساحة تقديرية للاعتداد بالظروف الثقافية كعنصر مخفف.
• تطوير اتفاقيات دولية تحدد آليات معالجة التصادم الثقافي.
الرؤية في الشريعة الإسلامية
الشريعة الإسلامية تقدم نموذجًا متقدمًا في مراعاة الأعراف والثقافات المختلفة، لكنها في الوقت ذاته تضع ضوابط شرعية تحول دون المساس بالمقاصد الكبرى للشريعة.
قال الفقهاء: "العادة محكّمة"، أي أن العادة والعرف معتبر في الأحكام إذا لم يخالف نصا أو مقصودًا شرعيًا. في القضاء الإسلامي التاريخي، كان القاضي يأخذ بعرف البلد أو القبيلة في تقدير بعض التصرفات والعقوبات، ما دام لا يصادم نصًا قطعيًا. حتى في المعاملات والجرائم، كان القضاء يميز بين الفعل الذي يصدر عن جهل معتبر وبين الفعل الذي يصدر عن عمد ومعرفة مستندًا إلى قاعدة: "لا تكليف إلا بعلم". وقاعدة: "رفع الحرج" الواردة في قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) هذا المبدأ يجعل المحاكمة في الشريعة محاكمة للفعل في سياقه الكامل، لا عزله عن بيئته وثقافته، وهو ما قد يفتقده أحيانًا القانون الوضعي الحديث.
في عالم تتقارب فيه الحدود وتتداخل الثقافات، لم يعد ممكنا تجاهل إشكالية محاكمة الأفعال بمعزل عن سياقها الثقافي. فالقانون العادل هو الذي يجمع بين صلابة النصوص ومرونة الفهم الإنساني، ويضمن أن تكون المحاكمة للفعل في ضوء النية والسياق، لا مجرد محاكمة لثقافة الفرد.
وكما قال أحد فقهاء القانون : "القانون الجيد هو الذي يخدم الإنسان، لا الذي يسحقه باسم النظام".