الغموض التشريعي: أداة أم ثغرة قانونية؟

سلطان بن سعود بن جنيدب
November 4, 2025
November 4, 2025
November 4, 2025
تمت المراجعة بواسطة
أثير الزهراني
نبذه عن المؤالف

سلطان بن سعود بن جنيدب
أخصائي امتثال ممارس، مُهتم بإدارة المخاطر والحوكمة والامتثال، ومدرك لأهمية توظيف التقنية الحديثة لتطوير حلول قانونية مبتكرة
مقدمة
تُعدّ النصوص القانونية حجر الأساس في بناء المنظومة التشريعية، فهي التي تحدد الحقوق وتضبط الواجبات وتحقق الأمن القانوني.
غير أنّ هذه النصوص لا تأتي دائمًا على درجة واحدة من الوضوح؛ فهناك نصوص محكمة الدلالة، وأخرى غامضة تحتمل أكثر من وجه.
والغموض في هذا السياق ليس عيبًا محضًا، بل أداة تشريعية مقصودة أحيانًا لترك مساحة للاجتهاد القضائي والتقدير العملي،
وفي التجربة السعودية، برزت هذه الظاهرة في عدة أنظمة حديثة كـ نظام المعاملات المدنية ونظام حماية البيانات الشخصية ونظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، حيث استخدم المشرّع ألفاظًا مرنة أو عامة تتطلب بيانًا أو تفسيرًا،
وهنا تكمن المعضلة: كيف نوازن بين وضوح النص الذي يضمن استقرار التعاملات، ومرونته التي تسمح بمواكبة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
أولًا: النص المبهم
إن هناك فرق كبير بين النص المبهم والنص المرن، حيث أن النص المبهم: هو لفظ تتعدد دلالاته ولا يتضح المقصود به إلا ببيان أو قرينة. مثل لفظ القُروء في الفقه (الذي يعني الطهر أو الحيض)
والأصوليون قالوا: النص المُبهم هو ما تردد بين محتملين أو أكثر على السواء، فلا يُفهم المراد إلا بدليل زائد،
وفي الأنظمة السعودية: يظهر للقارئ بعض النصوص المدنية التي يعتريها بعض الإبهام مثل لفظ الضرر (هل يشمل الضرر الأدبي أم يقتصر على المادي؟)،
وهذا النوع يُعالج عادةً بالرجوع للّوائح التنفيذية أو العرف أو أعمال التحضير التشريعي.

ثانيًا: النص المرن
وهو لفظ واضح، لكن تفسيره يتغير بتغير الظروف والسياق، مثل الوقت المعقول أو دون تأخير غير مبرر
وعرفه الأصوليون أنه هو اللفظ الذي له معنى ظاهر لكنه قابل للتوسعة أو التضييق بحسب القرائن والعرف والزمان، كالألفاظ العامة والمطلقة وما عُلِّق على أوصاف نسبية كالمعروف والمصلحة.
ومن أمثلته بالأنظمة السعودية ما نصت عليه المادة (95) من نظام المعاملات المدنية بمبدأ حسن النية في تنفيذ العقد ، والاتفاق على اعفاء المدين من التعويض(المادة 73 من ذات النظام) ، وكذلك التدابير اللازمة في نظام حماية البيانات الشخصية.
ثالثًا: الغموض الناتج عن التعارض التشريعي
إن الغموض لا ينشأ دائمًا من الألفاظ المبهمة أو المرنة، بل قد يكون مصدره تضارب الأحكام سواء داخل النظام الواحد أو بين أنظمة مختلفة. وهذا النوع من الغموض يشكل تحدي كبير لأنه يفتح باب التأويل و يخلق حالة من الازدواجية والارتباك في التطبيق ، ومن أنماط هذا التعارض التشريعي:
- التعارض الداخلي:
بين مواد في النظام نفسه، بحيث يُستفاد من مادة حكم، ومن أخرى حكم مناقض أو مقيِّد لها.
- التعارض الأفقي:
بين نظامين صادرين عن جهة تشريعية واحدة، مثل تعارض بعض أحكام نظام المرافعات الشرعية مع نظام التنفيذ.
- التعارض العمودي:
بين نظام ولائحة تنفيذية أو تعميم، حيث تتجاوز اللائحة أو التعميم حدود النص النظامي.

رابعاً: معالجة المُشرع السعودي للغموض
ورغم وجود صور متعددة للغموض، إلا أن المُشرع السعودي أوجد بعض المزايا البارزة مقارنة بغيره:
١- المرجعية الشرعية:
الغموض لا يُترك بلا حل، إذ يُحتكم إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة في رفع الإشكال، بخلاف بعض الأنظمة الوضعية التي قد تفتقر لمرجعية ميتافيزيقية أو أخلاقية عليا.
٢- التوازن بين المرونة واليقين:
المشرّع السعودي يتعمّد استخدام ألفاظ معيارية (كالآداب العامة، حسن النية) لضمان مرونة النص، لكنه بالمقابل يصدر لوائح تنفيذية تفصيلية (كما في حماية البيانات)، محققًا توازنًا بين الوضوح والمرونة.
٣- الاستعانة بالعُرف:
كما نصّ عليه نظام المعاملات المدنية بالفقرة(٢) بالمادة ٩٥ على استكمال الالتزامات بالعرف، وهذا يوفّر آلية عملية لتفسير الغموض متجذرة في البيئة المحلية، بخلاف بعض الأنظمة التي تُقصي العُرف تمامًا.
٤- التصحيح التشريعي المستمر:
في حالات الغموض الناتج عن التعارض، المشرّع السعودي يُبادر غالبًا إلى التعديل أو إصدار لوائح تفسيرية، وهو ما يحدّ من تراكم الفجوات.
٥- المرونة مع الحداثة التقنية:
في أنظمة حديثة مثل نظام حماية البيانات، المشرّع استخدم نصوصًا مرنة قابلة للتحديث باللوائح والتعليمات، ليُواكب التغيرات التقنية السريعة، بينما كثير من التشريعات الأجنبية تقع في مأزق الجمود.
خاتمة
إن الغموض في النصوص القانونية ليس عيباً في ذاته، بل قد يكون أداة تشريعية مقصودة إذا ضُبط باللوائح والقواعد والتعاميم وغيرها، وقد يراه البعض باعتباره باباً للتباين ، إلا أن المشرّع السعودي أحسن التعامل معه عبر أدوات متعددة: الشريعة، العرف، القضاء، واللوائح. هذه المزايا تمنح التشريع السعودي قدرة على الجمع بين الثبات والمرونة، بما يتلاءم مع طبيعة المجتمع وتطوراته المتسارعة.
المراجع
1. المادة الثالثة والسبعون من نظام المعاملات المدنية
2. المادة الخامسة والتسعون من نظام المعاملات المدنية

.webp)

.webp)
