دور الذكاء الاصطناعي في الوسائل البديلة لتسوية المنازعات

دور الذكاء الاصطناعي في الوسائل البديلة لتسوية المنازعات

نبذه عن المؤالف

عمر بازمول

أخصائي قانوني، مدير فريق المحتوى القانوني في قانونية، مهتم بصياغة التشريعات والتقنية القانونية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي لبناء حلول معرفية تُسهّل الوصول إلى الأنظمة.

مقدمة

تُعدّ الوسائل البديلة لتسوية المنازعات — كالتفاوض والوساطة والمصالحة — من أبرز الأدوات التي سعت النظم الحديثة إلى تفعيلها لتخفيف العبء عن القضاء، وتحقيق عدالة أكثر سرعة ومرونة، مبنية على إرادة الأطراف بعيدًا عن السلطة القضائية، هذه الوسائل وإن كانت تشترك في غايتها المتمثّلة في حل الخلافات خارج أروقة المحاكم، إلا أنها تختلف في بنيتها الإجرائية، ودور الطرف الثالث فيها، وطبيعة الأثر القانوني الذي تُنتجه.

وفي ظل التحوّل التقني الراهن، يبرز تساؤل يفرض نفسه في الممارسة القانونية اليوم: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون طرفًا محايدًا في هذه الوسائل؟ وهل يُمكنه أن يؤدي دور الوسيط أو المصلح أو حتى المستشار التفاوضي دون أن يُخلّ بالعدالة والرضائية التي تقوم عليها هذه الأدوات؟

جات زرقاء وبنفسجية، يرمز إلى دور الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات ودعم حلول تسوية المنازعات، مع شعار قانونية في الأسفل

أولاً: حياد الذكاء الاصطناعي وضوابطه

الحياد في الوسائل البديلة ليس مفهومًا "شعاراتيًا" بل هو حجر الزاوية الذي تقوم عليه الثقة في العملية من أساسها، فإذا كان الوسيط أو المصلح البشري يخضع لمعايير النزاهة والاستقلالية، فإن الذكاء الاصطناعي لا يُستثنى من ذلك، بل يتعلّق به حياد من نوع مختلف: هو الحياد البرمجي.
يتحقق هذا الحياد عبر:

  1. شفافية الخوارزميات بحيث تكون القواعد التي يعتمدها النظام في تحليل النزاع وتقديم المقترحات واضحة وقابلة للتدقيق.
  2. عدم الانحياز في البيانات التدريبية، إذ أن تحيّز البيانات يُعدّ شكلاً خفيًا من التحيّز البشري المقنّع تقنيًا.
  3. حصر دوره في النطاق التيسيري أو التحليلي دون منح الذكاء الاصطناعي سلطة تقريرية أو تنفيذية.

بهذه الضوابط يمكن قبول الذكاء الاصطناعي كطرف محايد من الناحية الإجرائية لتيسير تحقيق غايات هذه الوسائل البديلة.

ثانياً: دور الذكاء الاصطناعي في نطاق التفاوض 

يُعدّ التفاوض أبسط وسائل التسوية وأكثرها مرونة، إذ يقوم على حوار مباشر بين الأطراف دون تدخل طرف ثالث، ومن ثم فإن الذكاء الاصطناعي لا يكون فيه "طرفًا" بالمعنى الفني، وإنما أداة مساعدة للأطراف أو ممثليهم.
فهو يستطيع أن:

  • يُحلّل المراكز القانونية والاقتصادية لكل طرف.
  • يقترح استراتيجيات تفاوض محتملة.
  • أو يُقيّم جدوى العروض المتبادلة بناءً على معايير موضوعية.

إلا أن الذكاء الاصطناعي، في هذا النطاق، لا يُعتبر محايدًا لأنه لا يتوسط بين طرفين، بل يخدم من يستخدمه، فهو هنا “مستشار ذكي” لا “وسيط محايد”.

ثالثاً: دور الذكاء الاصطناعي في نطاق الوساطة

الوساطة هي المجال الأوسع لتموضع الذكاء الاصطناعي كطرف محايد بالمعنى الوظيفي، إذ أنها تعتمد على وجود طرف ثالث يُيسّر الحوار دون أن يفرض حلاً، وهنا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دور "الوسيط الرقمي" عبر:

  • إدارة الجلسات الإلكترونية وتوثيق مجرياتها.
  • تحليل المذكرات المقدّمة واستنباط نقاط الالتقاء والخلاف.
  • اقتراح خيارات تسوية وسطية بناءً على سوابق أو أنماط نزاعات مشابهة أو قواعد معينة.
  • تقديم تقييم موضوعي لمدى تقارب العروض المتبادلة.

غير أن هذا الدور يجب أن يبقى في الإطار المساعد وتظل السلطة التقديرية النهائية في يد الأطراف.
ومن الناحية التنظيمية، يمكن أن يكون "الوسيط الرقمي" تابعًا لجهة وساطة معتمدة تشرف على مخرجاته وتتحمل مسؤولية رقابية على آلياته.

رابعاً: دور الذكاء الاصطناعي في نطاق المصالحة

في نطاق المصالحة، وهي عملية رضائية تهدف إلى إنهاء النزاع باتفاق الأطراف بمساعدة طرف ثالث محايد يُعرف بـ"المصلح"، فيمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دورًا داعمًا فاعلًا، صحيح أن المصالحة بطبيعتها تستند إلى عنصر الثقة الإنسانية في المصلح، وإلى قدرته على قراءة المواقف، وقياس نوايا الأطراف، والتعامل مع المعطيات النفسية والواقعية للنزاع، وهي أمور يصعب للآلة إدراكها إدراكًا تامًا، ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يُشكّل أداة مساعدة تُعزّز من كفاءة عملية المصالحة ودقّتها من خلال:

  1. تحليل المستندات والمراسلات واستخراج نقاط الاتفاق والخلاف بدقة موضوعية.
  2. اقتراح صيغ تسوية مبدئية تستند إلى نماذج مشابهة أو إلى حلول سبق اعتمادها في نزاعات مماثلة.
  3. تقدير مدى توازن المقترحات ومساعدة المصلح في تقييم آثارها القانونية والاقتصادية.
  4. توثيق مجريات التفاوض والاتفاق النهائي بصورة آلية دقيقة تضمن الشفافية وسلامة الصياغة.

وبذلك يكون الذكاء الاصطناعي ذراعًا مساندة للمصلح البشري يُمكّنه من إدارة العملية بمزيد من الكفاءة والجودة، مع بقاء القرار النهائي في نطاق الإرادة الإنسانية التي تقوم عليها فلسفة الصلح ذاته.

خامساً: الأثر القانوني والتقني لتوظيف الذكاء الاصطناعي

إن إدخال الذكاء الاصطناعي في منظومة الوسائل البديلة يحقق عدة آثار عملية وقانونية، من أبرزها:

  1. تسريع إجراءات التسوية وخفض التكلفة الزمنية والمادية على الأطراف.
  2. رفع جودة التحليل من خلال استناد المقترحات إلى كمّ واسع من البيانات النظامية والاقتصادية.
  3. تعزيز الشفافية والتوثيق في مجريات الوساطة أو المصالحة.
  4. دعم مبدأ العدالة الوقائية عبر استباق النزاعات وتحليل احتمالاتها قبل تفاقمها.

غير أن كل ذلك مشروط بوجود إطار تنظيمي يضبط العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والأطراف البشرية، ويُحدد المسؤولية النظامية في حال الخطأ أو الانحراف الخوارزمي، خاصة عندما تكون المخرجات ذات أثر تنفيذي.

جدول المحتويات

جدول المحتويات

نبذه عن المؤالف

عمر بازمول

أخصائي قانوني، مدير فريق المحتوى القانوني في قانونية، مهتم بصياغة التشريعات والتقنية القانونية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي لبناء حلول معرفية تُسهّل الوصول إلى الأنظمة.

عمر بازمول

أخصائي قانوني، مدير فريق المحتوى القانوني في قانونية، مهتم بصياغة التشريعات والتقنية القانونية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي لبناء حلول معرفية تُسهّل الوصول إلى الأنظمة.

اطلع على جميع المقالات