الاستقالة قبل إكمال ما يعادل مدة الابتعاث: مناقشة قانونية حول المادة 189 من اللائحة التنفيذية للموارد البشرية في الخدمة المدنية
.jpg)
د.عمر الأنصاري
October 6, 2025
October 6, 2025
October 6, 2025
تمت المراجعة بواسطة
تسنيم مؤذن
نبذه عن المؤالف
.jpg)
د.عمر الأنصاري
خبير ومستشار قانوني
بقلم د.عمر الأنصاري
بالنظر إلى الدعم الكبير والمتواصل لبرامج الابتعاث التي تنفذها الجهات الحكومية لمنسوبيها، ولا سيما في الجامعات، تبرز المادة (189) من اللائحة التنفيذية للموارد البشرية في الخدمة المدنية بصفتها نصًا قانونيًا محوريًا ينظم حالة الموظف المبتعث بعد عودته من الابتعاث إذا رغب في تقديم استقالة.
فقد نصت المادة، بعد تعديلها بموجب قرار معالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ذي الرقم (111624) في تاريخ 3/6/1443هـ، على أنَّه: "على المبتعث بعد انتهاء المدة المحددة لدراسته أن يعمل لدى الجهة التي ابتعثته مدة تعادل مدة ابتعاثه، وعند امتناعه عن ذلك أو عدم إكماله مدة العمل المطلوبة يلزم بدفع جميع التكاليف المالية التي صرفت عليه لغرض ابتعاثه بحسب المدة التي تعادل مدة ابتعاثه أو ما تبقى منها. ويجوز للوزير المختص إعفاؤه من العمل لدى الجهة للمدة المشار إليها إذا كان سيعمل لدى جهاز حكومي آخر تمول ميزانيته من الميزانية العامة للدولة، وإعفاؤه بما لا يتجاوز نصف تلك المدة إذا كان سيعمل لدى جهاز حكومي آخر لا تمول ميزانيته من الميزانية العامة للدولة أو في القطاع الخاص".
فتكمن أهمية مناقشة هذه المادة في أمرين: أحدهما: أنَّ هذه المادة تمس شريحة كبيرة من الموظفين. والآخر: أنَّ هناك تباينًا كبيرًا في تفسيرها وتطبيقها بين الجهات الحكومية المختلفة، بل في داخل الجهة الواحدة أحيانًا. ومن هنا تأتي هذه المقالة لتسليط الضوء على المسائل القانونية المتعلقة بهذه المادة، مثل تفسير عبارة "جميع التكاليف المالية"، ومدى جواز تأخير قبول الاستقالة إلى استيفاء تلك التكاليف، ومسألة تحديد المقصود بـ "الوزير المختص" في سياق الإعفاء عن التكاليف المالية، ومسألة مفهوم الجهاز الحكومي الذي لا تموَّل ميزانيته من الميزانية العامة للدولة.
تفسير "جميع التكاليف المالية" ومدى جواز تأخير قبول الاستقالة لاستيفاء تلك التكاليف
هناك اختلافٌ في تفسير المقصود بـ "جميع التكاليف المالية" في المادة (189): فهل تشمل هذه العبارة الرسوم الدراسية فقط، أم تمتد لتشمل الرواتب والمخصصات والنفقات الأخرى التي صرفت للمبتعث وأسرته؟ وأرى أنَّ مقصود هذه المادة حصرُ التعويض في الرسوم الدراسية فقط؛ وذلك لسببين رئيسين. أولهما: أنَّ المبتعث يظل موظفًا حكوميًا على رأس وظيفته طوال مدة الابتعاث، ويجب على جهته الاستمرار في صرف راتبه ومستحقاته وفق الأحكام واللوائح ذات الصلة. فالابتعاث يُعد جزءًا من مهام الوظيفة، ويتطلب استمرارَ تلقي الموظفِ حقوقَه المالية، كما لو كان يؤدي خدمته في مقر الجهة، ولا يوجد مبرر لاسترداد رواتب موظف كان في خدمة جهته. والآخر: أنَّ النص حدد نطاق التكاليف محل الاسترداد بما صرف للموظف "لغرض الابتعاث"، وهو قيد أساسي يجب إعماله. فبما أنَّ المادة تشير إلى ما صرف مباشرة لغرض الابتعاث، فإنَّ ذلك لا يحمل إلا على ما صرف في الرسوم الدراسية، وربما يقبل إدخال تذاكر السفر في ذلك. وأما المستحقات غير المخصصة لهذا الغرض كالراتب ونفقة المرافق وغيرها فينبغي أن تخرج من نطاق الاسترداد، وإلا لم يكن لعبارة "لغرض الابتعاث" معنى، وإعمال النص أولى من إهماله.
ومن المهم التنبيه على أنَّه عند مطالبة الجهة موظفها بدفع هذه التكاليف لا يجوز تأخير قبول استقالته إلى سدادها؛ إذ لم تشترط المادة دفع المبلغ قبل القبول، بل من الممكن أن تُنهى إجراءات استقالته وتبقى التكاليف المطلوبة منه عهدةً تحت التحصيل. وذلك أنَّ قبول الاستقالة يخضع لأحكام المادة (213) من اللائحة التنفيذية للموارد البشرية في الخدمة المدنية التي نصت على أنَّه: "لا تنتهي خدمة الموظف إلا بقرار قبول استقالته، أو بمضي ثلاثين يومًا من تاريخ تقديم الطلب دون البت فيه". فتعد الاستقالة نافذة بمضي هذه المدة بغض النظر عن أي ظرف آخر. واختلفت بعض أحكام المحاكم الإدارية في هذه المسألة وما يتعلق بها من مسائل مشابهة، إلا أنَّ محكمة الاستئناف الإدارية قد أيدت في القضية ذات الرقم 2277 في عام 1443هـ الحكمَ بأنَّ استقالة عضو هيئة التدريس ومن في حكمه تُعتبر نافذةً إذا لم يبتَّ فيها ومضت عليها المدة المحددة في اللائحة التنفيذية للموارد البشرية لنظام الخدمة المدنية، وأنَّه لا يجوز تعليق استقالته على المطالبة بالتكاليف المالية أو على انتظار إجراءات العرض على المجالس الداخلية ومجلس الجامعة.
_4MB.jpg)
تفسير تطبيقي "للوزير المختص" في سياق الإعفاء عن التكاليف المالية للابتعاث
جعلت المادة محل هذه المقالة صلاحية إعفاء الموظف المبتعث من تكاليف الابتعاث لدى "الوزير المختص". وعرَّفت المادة (1) من اللائحة التنفيذية للموارد البشرية في الخدمة المدنية "الوزير المختص" بأنَّه: "الوزير المختص بشؤون وزارته، أو رئيس المصلحة المستقلة، بحسب الأحوال". وهذا التعريف واضح في أغلب السياقات، لكنه يثير إشكالًا عمليًا في الجهات الحكومية التي لها مجالس عليا أو إشرافية (مجلس إدارة، أو مجلس أمناء، أو مجلس جامعة، ونحو ذلك)، إذ أثار ذلك خلافًا حول الصلاحيات المسندة إلى الوزير المختص: هل تعود إلى مجلس الإدارة أو إلى رئيس المجلس، أو إلى من يشغل المنصب الإداري الأول (المحافظ، أو الرئيس التنفيذي، أو رئيس الجامعة، أو الأمين العام، ونحوهم)؟ فنرجح أنَّ "الوزير المختص" في سياق المادة (189) يقصد به دائمًا صاحب المنصب الإداري؛ وذلك أنَّ أحكام اللائحة تتعلق بشؤون وظيفية وتنفيذية متكررة لا يناسب إلا أن توكل إلى المسؤول التنفيذي الأول؛ إذ لا يتصور أن تحال صلاحيات ومسؤوليات وظيفية بهذا التكرار إلى مجالس تُعنى بقرارات إستراتيجية وإشرافية بالأساس.
وفي السياق الأكاديمي بالتحديد نلاحظ في الممارسة العملية أنَّ الجامعات تحيل معاملات الإعفاء من التكاليف المالية للابتعاث إلى مجالس الجامعة، قياسًا على كون مجالس الجامعات هي المسؤولة عن قبول الاستقالات حسب المادة (95) من اللائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات السعوديين من أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم، ولكننا نميل إلى أنَّ الصلاحية هنا تنعقد لرئيس الجامعة، لا إلى مجلس الجامعة؛ لأنَّه ينطبق على رئيس الجامعة تعريف الوزير المختص في اللائحة التنفيذية للموارد البشرية في الخدمة المدنية، والأصل أن يطبق تعريف اللائحة التنفيذية للموارد البشرية في الخدمة المدنية على الأحكام الواردة فيها إلَّا إذا تعارض ذلك مع نظام مجلس التعليم العالي ولوائحه، ولا يوجد تعارض في جعل مسألة الإعفاء من تكاليف الابتعاث عند رئيس الجامعة كما هو منصوص عليها في هذه اللائحة، وبين أن يكون قبول الاستقالة عند مجلس الجامعة وفقًا للائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات السعوديين من أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم. فمسألة قبول الاستقالة منفصلة عن مسألة الإعفاء من دفع تكاليف الابتعاث، ولا يلزم إسنادهما كلتيهما إلى مسؤول واحد.
تفسير مفهوم الجهاز الحكومي الذي لا تمول ميزانيته من الميزانية العامة للدولة
لغرض الإعفاء من تكاليف الابتعاث المالية، قسمت المادة (189) الجهات التي سينتقل لها الموظف بعد استقالته إلى ثلاث جهات — (1) جهة حكومية تمول ميزانيتها من الميزانية العامة، و(2) جهة حكومية لا تمول ميزانيتها من الميزانية العامة، و(3) القطاع الخاص —، وجعلت إمكانية الإعفاء من تكاليف كامل مدة الابتعاث للنوع الأول فقط. ولا إشكال في مفهوم النوع الأول والثالث من هذه الجهات، ولكن ما المقصود بالنوع الثاني، وهو الأجهزة الحكومية التي لا تمول من الميزانية العامة للدولة، وهل يوجد لها مثال؟ بعد بحث حول هذه المسألة وجدت أنها في غاية الإشكال؛ إذ لم يعثر كاتب هذه السطور على جهاز حكومي لا يمول من الميزانية العامة للدولة، فجميع الأجهزة الحكومية -حسب بحثنا- تمول كليًّا أو جزئيًّا من الميزانية العامة للدولة، ولا فرق في ذلك بين الوزارات والهيئات والصناديق، وغيرها. وتدخل في ذلك الجهات الحكومية التي لها رأس مال، مثل صندوق التنمية العقارية، وكذلك الجهات الحكومية التي يكون من ضمن ما تمول به المساهمات النقدية والعينية من الدولة، كصندوق الاستثمارات العامة. بل تؤكد تعليمات تنفيذ الميزانية العامة للدولة لعام 1446/1447هـ (2025م) المعدة من وزارة المالية تنفيذًا للمرسوم الملكي للميزانية العامة للدولة ذي الرقم (م/111) في تاريخ 1446/5/26هـ أنَّ الميزانية العامة تشمل "جميع الأجهزة الحكومية، والجهات العامة، والمؤسسات العامة، والأمانات، والمراكز، والبلديات، والهيئات ذات الميزانيات المستقلة والملحقة بالميزانية العامة للدولة، بالإضافة إلى برامج تحقيق الرؤية". ومن ثَمَّ لا يتبين وجود جهاز حكومي عمليًا يخرج عن هذا الشمول، وهذا يجعل إيجاد مثال واضح للجهاز غير الممول من الميزانية العامة أمرًا عسيرًا. وقد وجدنا في الوقع من يجتهد في تفسير هذا النص المشكل بعدة محاولات، منها: أنَّ المقصود بالجهات الحكومية التي لا تمول من الدولة هي تلك الأجهزة الحكومية التي تحصِّل موارد أخرى مثل الرسوم والمقابل المالي وما شابه ذلك، ولكن هذا التأويل لا نرى مناسبته لأنَّ هذه الجهات ما تزال ينطبق عليها وصف أنَّها ممولة من ميزانية الدولة وأنَّها تعتمد على ذلك، وأمَّا ما تأخذه من رسوم ومقابل مالي فلا يؤثر في ذلك والأصل فيه أنَّه يورَّد لوزارة المالية حسب نظام إيرادات الدولة ولائحته التنفيذية. وهناك مساعٍ تفسيرية أخرى غير منضبطة في التطبيق ولا تتسع هذه المقالة إلى تناولها بالمناقشة. عليه، ولمحاولة إعمال هذا النص عمليًا أرى أنَّ التفسير الأنسب له هو معاملة جميع الأجهزة الحكومية على أنَّها من النوع الأول الخاضع لميزانية الدولة، وتفسير المقصود بعبارة "أجهزة حكومية لا تمول ميزانياتها من الميزانية العامة" بأنَّها عبارة عن الكيانات غير الحكومية ذوات الصفات الأقرب إلى القطاع العام من ناحية أنَّها مملوكة للدولة، كالشركات التي تمتلك فيها الدولة الحصص الكافية للسيطرة عليها. فبهذا التوجه يُحفظ المقصد العملي للمادة، وتجنب التفسيرات التي تفرغ النص من مضمونه بسبب غموضه.
_4MB.jpg)
خاتمة
في الختام، تفيد المادة (189) أنَّ المبتعث أمام خيار أن يكمل في جهته كالمدة التي ابتُعث فيها أو أن يعوضها عن التكاليف المالية للابتعاث، ونرى أنَّ "التكاليف المالية" تقتصر المصاريف المباشرة للابتعاث المتمثلة في الرسوم الدراسية، وأنَّ صلاحية "الوزير المختص" الواردة في هذه المادة تنحصر في المسؤول التنفيذي الأول للجهة، لا في المجالس الإشرافية، وينطبق ذلك على الجامعات، فتكون هذه الصلاحية لدى رئيس الجامعة، لا مجلس الجامعة. وأمَّا مفهوم الأجهزة غير الممولة من الميزانية العامة فهو محل إشكال، ويتطلب تفسيرًا عمليًا منضبطًا واجتهدنا في ذلك بتأويله على أنَّه يتعلق ببعض الكيانات الشبيهة بالقطاع العام. ومن المهم أن توازن الأجهزة الحكومية بين حفظ مصالحها وتنفيذ أحكام النظام واللائحة، وبين تسهيل استقالة موظفيها الراغبين في إنهاء الخدمة، بما يحقق المصلحة العامة ويحافظ على سمعة الجهة.